لا شك في أن كل أمٍّ وأبٍ يتمنيان أن يريا أطفالهما يمسكون كتابًا ويغرقون داخل صفحاته لساعات، بدل الإمساك بالهاتف الذكيّ أو الألعاب الإلكترونية. وقد يظنّ أغلب الناس أنّ هذه المعركة خاسرةٌ لا محالة. لكن حين ننظر إلى مبيعات كتب الأطفال وإنتاج أدب الطفل في بلدانٍ عديدةٍ نرى أنّهما في تصاعدٍ دائم، على الرغم من أنّ الطفل في هذه البلدان أُتيحت له أحدث الألعاب الإلكترونية وآخر موديلات الآيفون وغيره من الهواتف الذكية. فكيف نجحت هذه البلدان في المحافظة على الكتاب جزءًا فاعلًا في حياة الطفل؟ الجواب أبسط بكثيرٍ مما يتصوره البعض.

حين يواجه الآباء والأمهات القوة الجاذبية التي تلصق أبناءهم بالأجهزة الإلكترونية إلى حدّ الإدمان، يردّ أكثرهم الفعل باستخدام سلاح السلطة الأبويّة، ويفرضون على الطفل قراءة الكتب واجبًا، رجاء إنقاذ عقولهم من التعفن. وردّة الفعل هذه طبيعيةٌ ومفهومة، لكنها للأسف تعطي نتيجةً معاكسةً تمامًا. حين نفرض القراءة على الطفل، لا ننمّي داخله الرغبة في القراءة، بل ننفّره منها ونخلق لديه ذكرياتٍ سلبيةٍ عن القراءة والكتب.
إذن ماهي الطريقة الصحيحة؟
الدنمارك هي إحدى البلدان التي حقّقت نجاحًا في تحفيز الأطفال على القراءة على الرغم من توفّر الألعاب والأجهزة الإلكترونية في كل بيت. فلننظر إلى العائلة الدنماركيّة والمكتبة الدنماركيّة العموميّة لنعرف السر وراء هذا النجاح.
البدأ مبكرًا
عند زيارة أيّ مكتبةٍ في أيّ مدينةٍ دنماركية، فستجد قسم الأطفال يعجّ بالأطفال والآباء والأمّهات والأجداد والجدّات يجلسون في كلّ زاويةٍ يلعبون تارةً ويتصفّحون الكتب تارة. وسترى أنّ الأطفال الموجودين ليسوا فقط أطفالً في عمر المدرسة، قادرين على القراءة أو على الأقلّ على متابعة أحداث قصةٍ أو فهم معلوماتٍ في كتاب. بل سترى أطفالًا في عمر الروضة ما زالوا غير قادرين على تكوين جُمَلٍ صحيحة. وسترى كذلك رُضّعًا ما زالوا يحبون.

سترى أطفالًا في كلّ الأعمار يطّلعون على كتبٍ تناسبهم، من كتابٍ كرتونيٍّ يحتوي على رسوم بسيطة، ثم كتبٍ مصورةٍ تحكي قصصًا سهلة، وحتى روايات الناشئة الطويلة ذات الأحداث المعقدة. السرّ وراء مجيء الناشئ للمكتبة وجلوسه ساعاتٍ يقرأ الرواية المعقدة، هو أنّ أهله أحضروه إلى المكتبة عندما كان رضيعًا أو طفلًا صغيرًا، وخلال هذه الزيارات نشأت علاقةٌ حميمةٌ وذكرياتٌ إيجابيةٌ في ذهنه تربطه مع القراءة والكتب، وتشدّه إليهما طوال حياته.
إن كنت تتساءل، متى يحين الوقت المناسب لأبدأ القراءة مع طفلي، فالجواب هو دون شك: الآن! لا تنتظر ولا تتردد. كلّما بكرت، كلّما كانت النتيجة أفضل.
الكتاب خيارٌ لا واجب
يندر جدًّا أن تسمع في البيت الدنماركي أبًا يقول لابنته: “عليك قراءة هذا الكتاب حتى أسمح لكِ باللعب بالحاسوب!” أو أُمًّا تقول لابنها: “علاماتك في الامتحان لم تكن مُرضية، لذا ستقرأ من الآن عشر صفحاتٍ كل يوم.” لكنك خلال اليوم ستسمع أبًا يقترح على أطفاله: “ما رأيكم أن نقرأ هذا الكتاب معًا؟ أنتم تحبون هذه القصة، أليس كذلك؟” وعند المساء ستسمع أُمًّا تسأل: “أي قصّةٍ تريد سماعها قبل النوم هذه الليلة؟”

حين نقول أن الكتاب خيارٌ فيجب أن نعني ما نقول. يترتب على ذلك أنّنا حين نسأل الطفل إن كان يرغب بقراءة كتابٍ ويجيب بلا، علينا أن نحترم هذه الـ لا ولا نُصرّ أو نحاول إقناعه. ثم نعيد السؤال في وقتٍ لاحق، أو في يومٍ آخر، وعندها قد يكون الجواب نعم. قد يبدو للبعض أن إعطاء الطفل الخيار سيؤدي إلى أنه لن يقرأ أبدًا. في الواقع ما يحدث هو أن الطفل سيكون أشد انتباهًا وأكثر تفاعلًا أثناء القراءة. جرب هذه الطريقة وأعطها حقّها ولن تندم.
كتابٌ جيدٌ خيرٌ من عشرة كتبٍ سيئة
في أغلب البيوت الدنماركيّة ستجد في إحدى الزوايا، في غرفة المعيشة أو في غرفة نوم الأطفال، رفًّا غير عالٍ، صُفّ عليه عددٌ من كتب الأطفال. قد لا يكون العدد كبيرًا، فالأسرة الدنماركيّة تستثمر المال في شراء كتبٍ ذات جودةٍ عالية، وتستثمر الوقت في اختيار الكتب المناسبة لأطفالهم.

كثيرٌ منّا قد يظن أنّنا حتى نحقق الفائدة لدى أطفالنا من القراءة، يجب أن نقتني أكبر عددٍ ممكنٍ من الكتب ونجعلهم يقرأون أكبر عددٍ ممكنٍ من الصفحات. لككنّا في الحقيقة حين نركز على العدد قد نُفشِل سعينا نحو هدفنا. فالكتاب المملّ رديء الرسوم لن يحفّز الطفل على القراءة. أمّا الكتاب الجيّد ذو القصّة الشائقة والشخصيّات اللطيفة، فسيطلب منك طفلك إعادة قراءته معه مراتٍ ومراتٍ حتى تتمنى أنّك لم تشتره. الطفل يحبّ التكرار. فطره الله على ذلك، فهو مع كلّ تكرارٍ للكلمات والتعابير والأفكار الجديدة يزداد استيعابًا ويثبّتها في عقله. لذا لا تحتقر الرفّ البسيط الذي يجمع عددًا متواضعًا من الكتب، فالنوع أهم بكثيرٍ من العدد.